خطيئة نتنياهو الكبرى: وهم إسرائيل التوراتية يصطدم بجدار أميركي ـ أوروبي

Entry Image
Entry Image

كتب الدكتور جاد طعمه:

أمّة “اقرأ” التي أُمرت بالقراءة كسلاح وعي، لا تقرأ التاريخ ولا الأحداث. إنما القراءة الواعية وحدها هي الأداة الفاعلة لاستدراك المستقبل؛ فمن عمق التاريخ يمكننا استشراف الغد، إذا ما أُقيم الترابط بين الأحداث بعقل موضوعي.

في تشرين الأول/أكتوبر 1973، كانت الدبابات السورية على مرمى حجر من بحيرة طبريا، وإذا بهنري كيسنجر – مهندس السياسة الأميركية في الشرق الأوسط – يبعث مذكرة سرية إلى البنتاغون جاء فيها:
“انتصار إسرائيل الساحق سيدفع العرب إلى أحضان السوفييت، وانتصار العرب سيُفقدنا إسرائيل. الحل؟ لا نصر لأحد… صراع متوازن إلى الأبد.”

هذه الوثيقة المحفوظة في الأرشيف الوطني الأميركي تختصر القاعدة الذهبية في السياسة الغربية: “إسرائيل حليف استراتيجي، لكن حلمها التلمودي خطر قاتل على المصالح الغربية.”

*اللوبي الصهيوني… قوة فاعلة لكن لها سقف*

تعيش أنظمة الدول العربية – التي صاغ مصائرها مستشارون نخبويون – تحت وطأة الانطباع بأن اللوبي الصهيوني يملك القوة المطلقة في العالم. والحقيقة أن هذا اللوبي قادر على هزّ أركان الكونغرس الأميركي، وهذا ما لا خلاف عليه، غير أنه لا يستطيع إسقاط الحصن المنيع في البيت الأبيض؛ حيث يجلس الرئيس الأميركي الذي قد يتأثر بالضغوط، لكنه لا يخضع لها بالكامل.

فعلى سبيل المثال، رفض الرئيس هاري ترومان عام 1948 الاعتراف الفوري بدولة إسرائيل رغم ضغوط اللوبي اليهودي وتهديده بدعم منافسه في الانتخابات الرئاسية، إذ كان حريصاً على عدم خسارة العلاقة الاستراتيجية مع الملك عبد العزيز آل سعود، الذي امتلك آنذاك ورقة ضغط كبرى: النفط السعودي. وقد عززت هذا التوجه تقارير استخباراتية حذّرت من تقويض المصالح النفطية الأميركية في المملكة. وهكذا، تغلّبت المصلحة الأميركية على المصلحة الإسرائيلية، رغم أن الممولين اليهود للحملات الانتخابية هدّدوا ترومان بسحب دعمهم إذا لم يعترف بـ”فلسطين اليهودية”. (هذا الموقف موثق في أرشيف ديفيد نايلز، مستشار الرئيس، وفي برقية وزير الدفاع جيمس فورستال).

وفي عام 1956، أجبر الرئيس دوايت أيزنهاور رئيس الحكومة الإسرائيلية دافيد بن غوريون على الانسحاب من سيناء بعد عدوان السويس، وأطلق يومها عبارته الشهيرة: “لا إمبراطوريات عبر الدماء.”

قد تختلف الظروف والشخصيات مع مرور الوقت، لكن الحقائق ثابتة: الرئيس الأميركي نفسه – دونالد ترامب – وبعد تسريب وثيقة الاتفاق النووي الإيراني عام 2018 في صحيفة نيويورك تايمز، انسحب من الاتفاق نتيجة الضغط المباشر الذي مارسه بنيامين نتنياهو. ومع ذلك، رفض ترامب منح نتنياهو الضوء الأخضر لتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران، ولا يزال متمسكًا بعدم الإضرار المباشر بالمصالح الأميركية هناك.

وفي “صفقة القرن” عام 2020، جرى التخلي عن مشروع ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل مقابل التطبيع مع العالم العربي، وهو ما حقق مليارات الدولارات للخزينة الأميركية. هذا السيناريو تكرر لاحقاً: فاللوبي الصهيوني قادر على هزّ الكراسي في عواصم القرار، لا سيما واشنطن، لكنه لا يتحكم بمن يجلس عليها بشكل مطلق.

بل إن عشرات الأكاديميين الأميركيين تمكنوا عام 2023 من منع تمرير قانون “مناهضة السامية” الذي دفعت منظمة AIPAC لإقراره في الكونغرس.

*غزة… صخرة تنكسر عليها الأحلام التلمودية في مواجهة المصالح*

سواء وقع طوفان الأقصى أم لم يقع، فقد ثبتت حقيقة تاريخية مفادها أن مخطط اجتياح غزة كان معدّاً وجاهزاً للتنفيذ. غير أن ما يغيب عن بال الكثيرين أن هيئة المسح الجيولوجي الأميركية نشرت تقريراً بعنوان USGS 2023 تضمّن خلاصة مفادها أن حقل غزة البحري يحتوي – في أضعف تقدير – على 1.1 تريليون قدم مكعب من الغاز، تقدَّر قيمته السوقية بـ400 مليار دولار.

وقد كشفت برقية سرية نشرها موقع ويكيليكس، كانت قد وصلت إلى السفارة الأميركية في تل أبيب عام 2007، أن إسرائيل أبلغت واشنطن استعدادها للسماح للسلطة الفلسطينية باستغلال الحقل شريطة ألّا تصل عائداته إلى حركة حماس التي تسيطر على القطاع. ومع استمرار هذه السيطرة، رغم أحداث طوفان الأقصى، بدا أن “الحل” المطروح لدى دوائر صنع القرار الإسرائيلي هو تهجير سكان غزة.

إلا أن تقريراً للأمم المتحدة صدر في أيار/مايو 2024 حذّر من أن “تهجير غزة سيتسبب بأزمة لجوء غير مسبوقة”؛ إذ توقّع أن يؤدي أي تهجير جماعي إلى دفع نحو سبعة ملايين لاجئ باتجاه الأردن ومصر، الأمر الذي من شأنه أن يفجّر إمكانية استمرار النظامين القائمين فيهما. وهكذا، كان العامل الجيوسياسي – لا الاعتبارات الأخلاقية – هو ما عطّل تنفيذ المخطط.

*نتنياهو… يقفز من الورطة إلى الهاوية*

في الداخل الإسرائيلي، تترقب نتنياهو ملفات فساد ثقيلة تنتظر انتهاء مهامه كرئيس للحكومة، أبرزها ملف رشاوى في قطاع الاتصالات. وقد أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية بتاريخ 13 شباط/فبراير 2024 قراراً يقضي بتأجيل محاكمته إلى حين “انتهاء الحرب”.

ومع ذلك، أظهر استطلاع للرأي أجرته صحيفة معاريف في أيار/مايو 2024 أن 72%  من الإسرائيليين يرون أن استمرار الحرب ليس سوى محاولة من نتنياهو للهروب من السجن.

ومؤخراً، وبعد ظهور علامات المجاعة على الأسرى الإسرائيليين لدى حركة حماس، خرج نتنياهو بخطاب روحاني-تلمودي معلناً أن الحرب الحالية هي “تحقيق لنبوءة حزقيال 37”. وللمرة الأولى منذ بدء طوفان الأقصى، صدرت مواقف إدانة من بعض الحكومات العربية، ما يطرح تساؤلات حول مصادر هذا “الوحي السياسي” وأبعاده.

ولعلّ ما يستحضر هنا هو نموذج مذكرة NSC الصادرة عام 1982 ضد حكومة مناحيم بيغن، والتي حذّرت في واشنطن من خطر “تدمير الرواية الصهيونية العلمانية”.

*اعتراف أوروبا بدولة فلسطين في أيلول… ضربة قاضية للمشروع التلمودي*

قد لا تبادر الحكومات الأوروبية إلى الاعتراف بأخطائها التاريخية تجاه الشعب الفلسطيني – لأن ذلك يدينها أخلاقياً أمام العالم – لكنها تجد نفسها مضطرة إلى الالتزام بصورة الاتحاد الأوروبي كمدافع عن مبادئ حقوق الإنسان. ومع تصاعد جرائم الإبادة الجماعية في غزة، ازدادت الضغوط الشعبية على تلك الحكومات، ما دفع عدة عواصم أوروبية إلى التحضير للاعتراف بدولة فلسطين خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر المقبل، باعتباره سلاحاً استراتيجياً ورسالة مفادها أن لا سلام ولا حل من دون إقامة دولتين.

ويتعزّز هذا التوجه بتقارير استخباراتية، منها وثيقة صادرة عن جهاز BND الألماني في أيار/مايو 2024، خلصت إلى أن استمرار الحرب يشكّل “تهديداً أمنياً مباشراً لأوروبا”.

إلى جانب ذلك، فإن اتفاقية الشراكة الأوروبية-الإسرائيلية المبرمة عام 2000 نصّت على أن استمراريتها مرهونة بشرط أساسي هو احترام حقوق الإنسان. وفي 15 أيار/مايو 2024، لوّح البرلمان الأوروبي بتفعيل خيار فرض العقوبات على إسرائيل إذا ما تواصلت الانتهاكات، الأمر الذي أزعج الحكومة الأميركية وفتح الباب أمام مواجهة سياسية جديدة.

*العالم العربي… بين التبعية وزلزال الشارع*

في برقية محفوظة في الأرشيف الوطني الأميركي، ورد عن هنري كيسنجر قوله: “الملك فيصل يعتقد أننا ندفعه لمواجهة الناصرية، بينما نحمي نظامه مقابل النفط”. ومن المهم الرجوع إلى مذكرات كيسنجر الصادرة عام 2011، حيث كتب بوضوح: “الملوك العرب عملاؤنا، ندفع لهم لشراء أمننا”.

مع الرئيس دونالد ترامب، الذي امتهن سياسة اللعب على حافة الهاوية، انقلبت المعادلة في العلاقات الدولية وأصبحت القاعدة الجديدة: “نحن نحفظ عروش الملوك العرب، لكن مقابل ثمن نطالبهم بدفعه لنا”. هذا التحول في السياسة الأميركية يفسّر الكثير من سلوكيات دول الخليج التي لا تهتز طالما أنها تسدد الأموال لضمان استمرارية العائلات الحاكمة.

مؤخرًا، تم الإعلان عن أكبر صفقة تعاون مصري–إسرائيلي في مجال الغاز، وهو ما يعدّ تطبيعاً اقتصادياً صريحاً، رغم هول المشاهد الخارجة من غزة. قد يراه البعض انفصاماً عن الواقع، لكنه في جوهره نتيجة طبيعية للضغوط الأميركية المستمرة. وليس ببعيد عن ذلك، ففي عام 2022 عُقدت صفقة مشابهة لتصدير الغاز المصري إلى أوروبا بسعر مضاعف، تحصل مصر بموجبها على 15% فقط من الأرباح، فيما استحوذت إسرائيل على 85%. والمفارقة أن مصر – برغم أزمتها الاقتصادية – قبلت بهذا الشرط المجحف.

أما في وثيقة راند كوربوريشن المرفوعة للبنتاغون عام 2007، فجاء فيها: “تنظيمات مثل داعش تمثل ضرورة لتحويل الصراع من احتلال إلى حرب على الإرهاب”. واليوم، يبدو أن هناك حاجة لإعادة تحريك تلك التنظيمات المتطرفة التي وحدها قادرة – وفق المنطق الأميركي – على تغطية الفظاعات الإسرائيلية في غزة، عبر تنفيذ هجمات أكثر دموية وبشاعة.

وفي تقرير استخباراتي أميركي صدر عام 2012، وردت إشارة صريحة إلى أن: “استغلال التنظيمات المتطرفة – التي هي من صنعنا (المقصود داعش والنصرة) – إنما هدفه تفتيت الجبهة الإسلامية السنية المعارضة للسياسات الأميركية في المنطقة”. وقد أيد كبار الضباط الأميركيين هذه المقولة في شهاداتهم أمام الكونغرس. بل إن تقرير وكالة استخبارات الدفاع الأميركية (DIA)  في العام نفسه أكد أن “تنظيم الدولة الناشئ (داعش) قد يُستخدم لتصفية الفصائل السنية المقاومة”.

*لماذا سيسقط حلم نتنياهو التلمودي؟*

الخطأ الفادح الذي ارتكبه رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، في تصريحاته الأخيرة هو أنه تجاهل حقيقة أن المصالح، بالنسبة لدول العالم، أقدس من أي نص ديني يهودي أو توراتي. فغاز غزة الذي تُقدّر قيمته بحوالي 400 مليار دولار لن تسمح الولايات المتحدة لإسرائيل بالاستحواذ عليه منفردة.

وفي تحذير صادر عن اليوروبول في شباط/فبراير 2024، ورد أن “الخطاب الديني المتطرف يضاعف من مخاطر الهجمات في أوروبا”. أما الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، فقد صرّح عام 2015 قائلاً: “إسرائيل لن تبقى يهودية وديمقراطية إذا ابتلعت الضفة”، فيما أظهر استطلاع مؤسسة يوغوف في أيار/مايو 2024 أن 68% من الشباب الأميركيين تحت سن الثلاثين يؤيدون مقاطعة إسرائيل. وفي السياق نفسه، أشارت إحصائية غالوب للعام ذاته إلى أن 73% من الديمقراطيين الأميركيين تحت 35 عاماً يدعمون فرض حظر سفر على المسؤولين الإسرائيليين.

ووفق تحليل معهد بروكنغز لعام 2023 فإن “ملفات الفساد قد تُنهي حكم نتنياهو إذا فقد دعمه الأميركي”.

هذه المؤشرات كلها تؤكد أن استمرار نتنياهو في توظيف النبوءات التلمودية لاسترضاء جمهوره والبقاء في الحكم لن يوقفه العالم العربي الغارق في سبات مفروض أميركياً، بل ستوقفه الإدارة الأميركية نفسها، تماماً كما حدث مع أريئيل شارون عام 2003 عندما حاول تخريب مسار خارطة الطريق. يومها أرسلت واشنطن مبعوثاً خاصاً إلى إسرائيل برسالة مقتضبة جاء فيها: “التوسع الاستيطاني يعرقل خارطة الطريق وسيؤدي إلى تجميد الضمانات المالية”. وقد كشفت أرشيفات جامعة جورج واشنطن لاحقاً مضمون تسجيلات بين الرئيس بوش الابن وشارون، أظهرت أن واشنطن وضعت خطوطاً حمراء صارمة. وعندما أعلن شارون عام 2003 أن “المستوطنات جزء من روح إسرائيل التوراتية”، جاءه الرد ببرقية من الخارجية الأميركية بثلاث كلمات فقط: “ستدفع الثمن غداً”.

التاريخ يعيد نفسه؛ فمنذ أكثر من مئة عام، قال وزير الخارجية البريطاني السير إدوارد غراي عام 1917: “أعطيناهم وعدًا… لكننا نتحكم بمصيره”. أما آرثر بلفور، صاحب الوعد المشؤوم، فقد كتب في مذكراته: “الوعد لليهود كان ورقة في لعبة الشطرنج الكبرى”.

وهكذا، فالغرب الذي صنع إسرائيل لتحقيق مصالحه هو نفسه من سيدفن الحلم التلمودي الصهيوني عندما يجنح الكيان عن المسار المحدّد له ويهدد مصالح رعاته. واليوم، بينما يحاول نتنياهو تحويل الوعد إلى نبوءة تلمودية، تؤكد واشنطن – على خطى كيسنجر – أن المصالح هي الإله الأوحد في معابد السياسة الدولية. ومن يتعمق في علم السياسة يدرك أن نتنياهو يقود إسرائيل نحو الهاوية، وربما نحو النهاية التي يخشاها المتدينون اليهود أنفسهم.

*يُنشَر بالتعاون مع جريدة الحرة.