مقايضة كبرى: إخراج اليونيفيل… مقابل سلطة الداخل وأمن العدو؟


10-06-2025
كتب الدكتور بشير عصمت في جريدة الحرة
أمنٌ يُكرّس للعدو، نفوذٌ يُكرّس للداخل، ودولة يسحب البساط من تحت أقدامها. هذه ليست نظرية مؤامرة… هذا هو لبنان إذا مرّت الصفقة.
ليس مفاجئاً، بعد كل ما جرى في غزة منذ 7 تشرين الأول وما يُراد أن يُكرَّس جنوب لبنان، أن تتقاطع المصالح بين إسرائيل وحزب الله عند نقطة واحدة: إنهاء مهمة اليونيفيل أو تعديلها بما يخدم الطرفين في اللحظة السياسية الراهنة. وحده من يُصرّ على العيش في أسر الأساطير القديمة قد يستغرب هذا المشهد. أما من يقرأ طبيعة التحولات الجارية في الإقليم، يدرك أن ما يجري ليس سوى حلقة أخرى في سلسلة تفاهمات غير معلنة، تُصاغ فوق الطاولة وتحتها، بين من كان يوماً في معسكر المقاومة وبين رعاة النظام الإقليمي الجديد.
ليست المصادفة وحدها هي التي جعلت الحملات المنهجية على قوات اليونيفيل تتكثف في توقيت دقيق يتقاطع مع لحظة حرجة في مسار التفاوض الأميركي الإيراني، والتفاوض الأميركي مع حزب الله مباشرة او مداورة في الدوحة أو سواها، ولا مع مشهد إقليمي يسعى إلى تثبيت معادلات أمنية جديدة على حساب الشعارات القديمة. الجنوب اليوم ليس ساحة مواجهة بين مقاومة واحتلال، بل ساحة اختبار دقيق للتوازنات بين لاعب محلي يسعى إلى تحسين شروطه في منظومة السلطة اللبنانية، وبين لاعب خارجي يريد تثبيت حدود أمنه وشرعية احتلاله. في هذا المشهد، اليونيفيل لم تعد العقبة المركزية أمام المقاومة، بل أمام تفاهمات غير مُعلنة تقتضي تحييد الساحة اللبنانية عن أي اشتباك جدّي مع إسرائيل، مقابل أثمان تُمنح في الداخل، على صعيد النفوذ السياسي والمؤسساتي.
منذ اللحظة التي ارتضى فيها حزب الله أن يُدار ملف الصراع في غزة بمنطق الحياد المحسوب، كان واضحاً أن المعادلة الإقليمية تتغيّر. الاستقرار الذي فرض في الجنوب لم يكن نتيجة توازن قوة ميداني فحسب، بل جزء من تفاهم غير مكتوب يحفظ أمن الشمال الإسرائيلي مقابل حرية حركة أكبر لحزب الله في عمق النظام اللبناني. اليوم، مع طرح مسألة مستقبل اليونيفيل، تُعاد صياغة المشهد نفسه: إخراج المظلة الدولية يُخلي الساحة أمام ترسيخ أمر واقع أمني وسياسي يخدم الطرفين. إسرائيل تسعى إلى حدود آمنة وواقع لبناني بلا تهديد فعلي، وحزب الله يسعى إلى ترسيخ موقعه كقوة حاكمة ضمن منظومة السلطة، بأثمان قد تكون على حساب موقعه كقوة مقاومة.
لا يحتاج الأمر إلى كثير من التدقيق ليدرك المراقب أن لحظة الدفع نحو إخراج اليونيفيل تأتي في سياق استثمار داخلي أكثر مما هي معركة سيادية وطنية. فلو كان هناك مشروع مقاومة فعلي يريد حماية القرار 1701 وتحسينه لصالح لبنان، لما جرى إضعاف المظلة الدولية بطريقة تتيح للعدو الإسرائيلي أن يظهر اليوم في موقع المطالب بإعادة النظر فيها. تقاطع المصالح في هذه النقطة تحديداً ليس بريئاً ولا عابراً، بل جزء من تفاهم أوسع. وليس غريباً أن تظهر في خلفية هذا المشهد إشارات مريبة حول أدوار لبعض المستشارين الذين يديرون بحنكة خيوط هذا التلاقي بين الداخل والخارج، بين الحاجات السلطوية المحلية والضمانات الأمنية التي تُمنح لإسرائيل.
قد يرى البعض في ما يجري فرصة لإعادة تعريف موقع حزب الله في الداخل: من قوة عسكرية تعرّض أمن إسرائيل للخطر إلى قوة سياسية ـ إدارية تُمسك بمفاصل الدولة مقابل أمن مكرَّس على حدود الجنوب. هذه المقايضة لم تُعلن رسمياً ولن تُقال بهذه الصيغة، لكنها تُمارس في السياسات اليومية وفي شكل التموضع في الساحات الإقليمية. إخراج اليونيفيل أو تعديل تفويضها قد يكون لحظة اختبار لهذه المقايضة، وقد يكون الثمن الذي يُدفع لتحصيل أثمان أكبر في الدولة اللبنانية نفسها.
في هذا السياق، من السذاجة اعتبار أن الصراع الجاري هو معركة وطنية حول دور قوة دولية. المسألة أعمق بكثير: إنها اختبار لإرادة اللبنانيين في الحفاظ على ما تبقى من سيادتهم الحقيقية، في مواجهة مشهد يُعاد فيه توزيع الأدوار بين مقاوم سابق يبحث عن ضمانات سلطوية، وبين عدو تاريخي يحصد الأمن والشرعية في مقابل منحه النفوذ لشركائه الجدد في الداخل. كل ما عدا ذلك ليس سوى تفاصيل.
ليس الجدل اليوم حول “دور قوات دولية” ولا حول “فعالية اليونيفيل”. المعركة الحقيقية تدور في مكان آخر: في قلب معادلة جديدة يجري تركيبها ببرودة أعصاب، تُسلّم الجنوب إلى أمن إسرائيل وتسلّم لبنان إلى نفوذ حزب الله، مقابل انسحاب تدريجي من لعبة السلاح. من لا يرى تقاطع المصالح بين الطرفين عند هذه النقطة، وسط صمت رسمي مريب وتهافت إقليمي معهود، يفوته أن لبنان على عتبة صفقة كبرى: صفقة لا تُكتب بمحاضر، بل تُحفر في الأرض وفي تركيبة السلطة. بين المفاوضات الإيرانية الأميركية، وحسابات الداخل اللبناني، تُطبخ أكبر مقايضة على حساب ما تبقّى من سيادة الدولة. وهنا تبدأ الحكاية.
هكذا تُصاغ المعادلات اليوم: أمنٌ مكرَّس لإسرائيل، نفوذٌ مكرَّس لحزب الله، ودولةٌ تتقلّص بينهما كل يوم أكثر. من لا يرى ذلك، إما أعمى… أو شريك.